سورة الحجر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


{بسم الله} الواحد الأحد الجامع لما شتت من بدد {الرحمن} الذي جمع خلقه في رحمة البيان {الرحيم} الذي خص الأبرار بما أباحهم الرضوان.
لما ختم التي قبلها بعنوان الكتاب، ابتدأ هذه بشرح ذلك العنوان، وأوله وصفه بأنه جامع والخير كله في الجمع والشر كله في الفرقة، فقال تعالى: {الر تلك} أي هذه الآيات العالية المقام، النفسية المرام {آيات الكتاب} أي الكامل غاية الكمال الذي لا كتاب على الحقيقة غيره، الجامع لجمع ما يقوم به الوجود من الخيرات، القاطع في قضائه من غير شك ولا تردد، الغالب بأحكامه القاهرة في وعده ووعيده وأحكامه في إعجازه لجميع من يعانده.
ولما كان الغالب في هذه السورة القطع الذي هو من لوازم الكتاب قدمه، وذلك أنه قطع بأمر الأجل والملائكة، وحفظ الكتاب والرمي بالشهب، وكفاية المستهزئين، فكان كما قال سبحانه: {و} آيات {قرآن} أي قرآن جامع ناشر مفصل واصل، إذ التنوين للتعظيم {مبين} لجميع ما يجمع الهمم على الله فيوصل إلى السعادة، وهذه الإبانة- التي لم تدع لبساً- هو متصف بها، مع كونه جامعاً للأصول ناشراً للفروع لا خلل فيه يدخل منه عليه، ولا فصم يؤتى منه إليه، فأعجب لأمر حاوٍ لجميع وفرق وفصل ووصل: والإبانة: إظهار المعنى للنفس بما يميزه عن غيره، لأن أصل الإبانة الفصل: فهذا شرح كونه بلاغاً، فمقصود هذه السورة اعتقاد كون القرآن بلاغاً جامعاً للأمور الموصلة إلى الله، مغنياً عن جميع الأسباب، فلا ينبغي الالتفات إلى شيء سواه {ذرهم يأكلوا}، {لا تمدن عينيك} {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وكان الجمع بين الوصفين الدال كل منهما على الجمع إشارة إلى الرد عليهم في جعلهم القرآن عضين، وأن قولهم شديد المباعدة لمعناه. مع أن المفهومين- مع تصادقهما على شيء واحد- متغايران، فالكتاب: ما يدون في الطروس، والقرآن: ما يقرأ باللسان، فكأن الأول إشارة إلى حفظه في الطروس بالكتابة، والثاني إلى حفظه في الصدور بالدراسة، وسيأتي قوله: {وإنا له لحافظون} مؤيداً لذلك، وكل من مادتي كتب وقرأ بجميع التقاليب تدور على الجمع.
أما كتب وتنقلب إلى كبت وتبك وبكت وبتك- فقال في المجمل: كتبت الكتاب أكتبه وهو من الجمع، والكتاب أيضاً: الدواة- تسمية للشيء باسم ما هو آلته، والمكتب- كمعظم: العنقود أكل بعض ما فيه- تشبيهاً له بالمكتوب، والكتيبة: الجيش والجماعة المستحيزة من الخيل إذا أغارت من المائة إلى الألف- انتهى. وكتبت البغلة- إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة؛ وقال القزاز: وأصله- أي الكتاب- ضمك الشيء إلى الشيء، فكأنه سمي بذلك لضم الحروف بعضها إلى بعض، كتبت المزادة- إذا خرزتها، يعني: فضممت بعضها إلى بعض.
والكتبة- بالضم: السير يخرز به، وما يكتب به حياء الناقة لئلا ينزي عليها، والإكتاب: شد رأس القربة، والكتيبة: جماعة تكتبوا، أي تجمعوا، وتكتب الرجل- بتقديم الموحدة- إذا تقبض، ومنه الكتاب- بضم الكاف وتخفيف التاء الفوقانية لسهم صغير يتعلم به الصبيان الرمي- كذا قال القزاز إنه مخفف، وفي القاموس: وزنه كرمان- وزاد أنه مدور الرأس، وكتبت الناقة تكتيباً: صررتها، واكتتب بطنه: أمسك، والمكتوتب: الممتلئ والمنتفخ؛ ويلزم الجمع القطع والغلبة التي هي من لوازم القدرة، فمن القطع: الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر؛ والبتك: القطع ولذلك قيل للسيف: باتك، أي قاطع، ومن الغلبة والقدرة: الكتاب بمعنى القدر، قال ابن الأعرابي: والكاتب عندهم العالم، وقال القزاز: والكاتب: الحافظ، وهذان يرجعان أيضاً إلى نفس الجمع- لجمع الحافظ المحفوظ والعالم المعلوم؛ وكبت الله العدو- بتقديم الموحدة: صرفه ذليلاً، وهو من تكبت الرجل- إذا تقبض، وعبارة القزاز: كبت أعداءه: ردهم بغيظهم، أي فانقمعوا وانجمعوا عما كانوا انتشروا له، وكبت الرجل- إذا صرعه على وجهه، وبكته تبكيتاً- إذا أنبّه أو ضربه بعصى أو سيف ونحوهما، لما يلزمه من تصاغر نفسه وتقبضها.
وأما قرأ، مهموزاً- وينقلب إلى رقأ، وأرق، وأقر، وغير مهموز يائياً وتراكيبه خمسة: قري، وقير، ورقي، وريق، وواوياً وتراكيبه ستة: قرو، وقور، ورقو، وروق، ووقر، وورق- فهو للجمع أيضاً، ويلزمه الإمساك، وربما كان عنه الانتشار، فمن الجمع: قرأت القرآن، أي تلوته فجعلت بعض حروفه وكلماته وآياته تالياً لبعض متصلاً به مجموعاً معه، ويلزم القراءة النسك، ومنه القارئ والمتقرئ والقراء- كرمان. أي الناسك، ويلزم عنه الفقه، ولذا قيل: تقرأ- إذا تفقه، وهو من الجمع نفسه أيضاً لأن الناسك جمع النسك إلى القراءة وانجمع همه، والفقيه جمع الفقه إليها؛ قال في المجمل: والقرآن من القرء وهو الجمع، أي وزناً ومعنى، وفي القاموس: وقرأ عليه السلام: أبلغه كأقرأه، ولا يقال: أقرأه، إلا إذا كان السلام مكتوباً؛ وقال الزبيدي في مختصر العين: وقرأت المرأة قرءاً، إذا رأت دماً، وأقرأت- إذا حاضت فهي مقرئ- انتهى. فكأنه عبر بذلك عند رؤية الدم لأنه لا يعرف أن المرأة جمعته إلا برؤيته، وهو من الانتشار الذي قد يلزم الجمع، أو يكون فعل هنا للإزالة، فمعناه: أزالت إمساك الدم كما أن هذا معنى أقرأت فإن فعل- لخفته وكثرة دوره- يتصرف في معاني جميع الأبواب، وقال في المجمل: وأقرأت المرأة: خرجت من طهر إلى حيض أو حيض إلى طهر، قلت: فالأول يكون فيه أفعل للإزالة، والثاني للدخول في الشيء كما تقول: اتهم الرجل وأنجد- إذا دخل في تهامة أو نجد، قال: والقرء: وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة، قلت: فالأول للجمع نفسه، والثاني لأنه دليل الجمع، قال: والجمع قروء، ويقال: {القروء} هو الطهر، وذلك أن المرأة الطاهرة كان الدم اجتمع وامتسك في بدنها فهو من: قريت الماء، وقرى الآكل الطعام في شدقه، وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر، والمعنى واحد إذا كان الأصل واحداً، وقوم يذهبون إلى أن القرء: الحيض، وفي القاموس: والقرء- ويضم: الحيض والطهر ضد- وقد تقدم تخريج ذلك، والوقت- لأنه جامع لما فيه، والقافية- لأنها جامعة لشمل الأبيات، جمعه أقرؤ وقروء، وجمع الحيض أقراء، وكأن العلة في ذلك أنه لما كان جمع الكثرة هو الأصل في الجمع، لأن المراد بالجمع نفسه الكثرة، فكلما كان أكثر كان به أجدر، لمّا كان الأصل كذلك، وكان القرء بمعنى الطهر هو الأصل في مدلول الجمع، كان أحق بجمع الكثرة الذي هو أعرق في الجمع، ولما كان القرء بمعنى الحيض فرعاً، كان له جمع القلة الذي هو فرع في باب الجمع؛ وأقرأت: حاضت وطهرت، وأقرأت الرياح: هبت لوقتها- لأن هبوبها دال على اجتماعها كظهور دم الحيض، وقرأ الشيء: جمعه وضمه، والحامل: ولدت- لأن ظهور الولد هو المحقق لجمعها إياه في بطنها، وأقرأ: رجع ودنا وأخر واستأخر وغاب وانصرف وتنسك كتقرأ، بعضه للإيجاب وبعضه للسلب، والمقرأة- كمعظمة: التي ينتظر بها انقضاء أقرائها، وقد قرئت: حبست لذلك، وأقراء الشعر: أنواعه وانحاؤه- لأنها جامعة للأجزاء، والقرءة- بالكسر: الوباء- لجمعه الهم، واستقرأ الجمل الناقة: تاركها لينظر ألقحت أم لا- من التتبع والسبر، وهو بمعنى جمع الأدلة، وقرأت الناقة- إذا حملت، فهي قارئ، أي جمعت في بطنها ولداً، وأقرأت- إذا استقر الماء في رحمها؛ ومن الإمساك: رقأ الدم والدمع رقوءاً- إذا انقطعا، قال أبو زيد: والرَّقوء- أي بالفتح: ما يوضع على الدم فيسكن، ورقأ بينهم: أصلح وأفسد، وفي الدرجة: صعد، وهي المرقاة وتكسر، ورقأ العرق: ارتفع- منه ما هو بمعنى الجمع ومنه ما هو بمعنى الانتشار والعلو الذي ربما لزماه، ومن الإمساك: الأرق، وهو السهر لأنه يمسك النوم، والإرقان: دود يكون في الزرع- فكأنه يوجب الهم الذي يكون عنه الأرق، ويمكن أن يكون من الانتشار الذي ربما يلزم الجمع، ويمكن أن يكون من الجمع نفسه، لأنه يجمع الهم- والله أعلم؛ وفي القاموس: والإرقان بالكسر: شجر أحمر، والحناء، والزعفران، ودم الأخوين- كأنه سبب للعكوف عليه بالاسترواح إليه، أو أنه يجمع بصبغه لوناً إلى لون، والإرقان أيضاً: آفة تصيب الزرع والناس كالأرقان محركة وبكسرتين وبفتح الهمزة وضم الراء، والأرق والأرقان- بفتحهما، والأراق- كغراب، واليرقان- محركة، وهذه أشهر داء يتغير منه لون البدن فاحشاً إلى صفرة أو سواد- كأن ذلك لمّا كان سبب الأرق كان هو الأرق البليغ، وزرع مأروق وميروق: مؤوف، والأقر- بضمتين: واد واسع مملوء حمضاً ومياهاً، وهو واضح في معنى الجمع، قد مضى من هذه المادة جملة في آخر سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى: {إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] وتأتي بقيتها إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله: {وفي آذانهم وقراً} [الكهف: 57].
ولما وصف سبحانه هذا القرآن بما وصفه من العظمة والإبانة لجميع المقاصد التي منها سؤال الكفرة عند رؤية العذاب التأخير للطاعة في قوله تعالى: {وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب} كان كأنه قيل: ما له لم يبين للكفرة سوء عاقبتهم بياناً يردهم؟ فقال سبحانه باسطاً لقوله: {ولينذروا به} {ربما يود} أشار تعالى بكونه مضارعاً إلى أن ودهم لذلك يكون كثيراً جداً متكرراً، وإيلاءه لربما- وإنما يليها في الأغلب الماضي- معلم بأنه مقطوع به كما يقطع بالماضي الذي تحقق ووقع {الذين كفروا} أي ولو وقتاً ما والود: التمني وهو تقدير المعنى في النفس للاستمتاع، وإظهار ميل الطباع له إليه، وفيه اشتراك بين التمني والحب- قال الرماني، وهو هنا للتمني فإنه بين مودودهم بقوله: {لو كانوا} أي كوناً جبلياً {مسلمين} أي عريقين في وصف الإسلام من أول أمرهم إلى آخره؛ قال الرماني: والإسلام: إعطاء الشيء على حال سلامة كإسلام الثوب إلى من يقصره، وإسلام الصبي إلى من يعلمه، فالإسلام الذي هو الإيمان- إعطاء معنى الحق في الدين بالإقرار والعمل به- انتهى. وقد كان ما أخبر الله به فقد ندم كل من أسلم من الصحابة على تأخير إسلامه لما علموا فضل الإسلام ورأوا فضائل السابقين- كما هو مذكور في السير وفتوح البلدان وسيكون ما شاء من ذلك في القيامة وما قبلها، فالمعنى أنكم إن كذبتم في القطع- في نحو قوله: {فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا} [إبراهيم: 44]، الآية- بأنكم ترجعون عن هذا الشمم وتتبرؤون من هذه السجايا والهمم فتسألون الله تعالى في الطاعة، وقد فات الفوت بحلول حادث الموت إلى غيره، فلا أقل من أن يكون عندكم شك في الأمور التي يجوز كونها، ولا ينبغي حينئذ للعاقل ترك الاهتمام بالاستعداد على تقدير هذا الاحتمال، هذا- أعني التقليل- مدلول رب، وقال بعضهم: إنها قد ترد للتكثير، وقال الجمال ابن هشام في كتاب المغني: إنه أغلب أحوالها، واستدل بشواهد لا تدل عند التأمل. ولا يصح قول من نسب إلى الكشاف ذلك، فإن كلامه مأخوذ من الزجاج، وعبارة الزجاج- كما نقلها الإمام جمال الدين محمد بن المكرم في كتابه لسان العرب ومن خطه نقلت: من قال: إن رب يعني بها التكثير فهو ضد ما تعرفه العرب، فإن قال قائل: فلم جازت في قوله: {ربما يود الذين كفروا} و{رب} للتقليل؟ فالجواب أن العرب خوطبت بما تعلمه في التهدد، والرجل يتهدد الرجل فيقول: لعلك ستندم على فعلك؟ وهو لا يشك أنه يندم، ويقول: ربما ندم الإنسان على ما صنعت، وهو يعلم أن الإنسان يندم كثيراً، ولكن مجازه أن هذا لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإنسان يخاف أن يندم على الشيء لوجب عليه اجتنابه، والدليل عل أنه معنى التهدد قوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} انتهى.
فقد علم من هذا أنهم يطلقونها بمعنى القلة فيما يعلمون أنه كثير إرخاء للعنان وتنبيهاً على وجوب الأخذ بالأحوط، وذلك واقع في التهديد، وفرق كبير بين ما يعلم أنه كثير من أمر خارج عن العبارة المخبر بها عنه وبين ما تعرف كثرته من تلك العبارة، وزيدت ما فيها تأكيداً من حيث إنها تفهم أن الأمر لا يكون إلا كذلك، ولتهيئتها لمجيء الفعل بعدها؛ قال الإمام أبو حيان: والظاهر أن ما في رب، مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر- على خلاف فيه- لا يليها إلا الأسماء، فجيء بها مهيئة لمجيء الفعل بعدها، وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجئ في القرآن إلا في هذا الموضع انتهى. ودخلت ههنا على المضارع- وهي للماضي- لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان، أو لأن ما إذا لحقتها سوغت دخولها على المستقبل كما تدخل على المعرفة قال الرماني.
ولما طرق لهم سبحانه الاحتمال، كان كأنه قيل: هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له؟ فقيل: بل استمروا على عنادهم، فقال- مستأنفاً ملتفتاً إلى ما أشار إليه في أول سورة ابراهيم في قوله: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} [إبراهيم: 3] من المانع لهم عن الإذعان-: {ذرهم} يا أعز الخلق عندنا! كالبهائم {يأكلوا ويتمتعوا} والتمتع: التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال {ويلههم} أي يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة {الأمل} أي رجاءهم طول العمر وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ من غير سبب مهيئ لذلك ولما كان هذا امراً لا يشتغل به إلا أحمق، سبب عنه التهديد بقوله: {فسوف يعلمون} أي ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} [إبراهيم: 42] إلى خاتمتها، أعقب ذلك بقوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيداً لذلك الوعيد {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} ثم أعقب تعالى: هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان، لا انفكاك لها عنها ولا تقدم ولا تأخر، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه، وقال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} وكان هذا يزيد أيضاحاً قوله عز وجل: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42] وقوله: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48] الآية؛ وتأمل نزول قوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله، وأما افتتاح السورة بقوله: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} فإحالة على أمرين واضحين: أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضاً، فكيف لا يكون المتوعد به في قوة الواقع المشاهد، لشدة البيان في صحة الوقوع فالعجب من التوقف والتكذيب! ثم أعقب هذا بقوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} انتهى.
ولما هددوا بآية التمتع وإلهاء الأمل، وكان من المعلوم جداً من أحوالهم الاستعجال بالعذاب تكذيباً واستهزاء، كان الكلام في قوة أن يقال: فقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! عجل لنا ما تتوعدنا به، وكان هذا غائظاً موجعاً حاملاً على تمني سرعة الإيقاع بهم، فقيل في الجواب: إن لهم أجلاً بكتاب معلوم لا بد من بلوغهم له، لأن المتوعد لا يخاف الفوت فهو يمهل ولا يهمل، لأنه لا يبدل القول لديه، فليستعدوا فإن الأمر غيب، فما من لحظة إلا وهي صالحة لأن يتوقع فيه العذاب، فإنا لا نهلكهم إلا إذا بلغوا كتابهم المعلوم {وما} جعلنا هذا خاصاً بهم، بل هو عادتنا، ما {أهلكنا} أي على ما لنا من العظمة، وأكد النفي فقال: {من قرية} أي من القرى.
ولما كان السياق للإهلاك واستعجالهم واستهزائهم به، وكان تقديره سبحانه وكتُبه من عالم الغيب، اقتضى الحال التأكيد بما يدل على أنه محتوم مفروغ منه سابق تقديره على زمن الإهلاك، فأتى بالواو لأن الحال بدون الواو كالجزء من سابقها كالخبر والنعت الذي لا يتم المعنى بدونه، والتي بالواو هي زيادة في الخبر السابق، ولذلك احتيج إلى الربط بالواو كما يربط بها في العطف، فقال: {إلا ولها} أي والحال أنه لها في الإهلاك أو لإهلاكها {كتاب معلوم} أي أجل مضروب مكتوب في اللوح المحفوظ، أو يكون التقدير: فسوف يعلمون إذا جاءهم العذاب في الأجل الذي كتبناه لهم: هل يودون الإسلام أم لا؟ ثم بين الآية السابقة بقوله: {ما تسبق} وأكد الاستغراق بقوله: {من أمة} وبين أن المراد بالكتاب الأجل بقوله: {أجلها} أي الذي قدرناه لها {وما يستأخرون} أي عنه شيئاً من الأشياء، ولم يقل: تستأخر- حملاً على اللفظ كالماضي، لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعنتاً.
ثم لما أجابهم بهذا الجواب الدال على تمام القدرة وكمال العلم الدالين على الوحدانية، عطف على ما تقدم أنه في قوة الملفوظ قوله دالاً على تركهم الجواب إلى التعنت والسفه: {وقالوا} أي لم يجوزوا أنهم يودون ذلك، بل استمروا على العناد وقالوا: {يأيها الذي} ولما كان تكذيبهم بالتنزيل نفسه، بني للمفعول قوله: {نزل عليه} أي بزعمه {الذكر} وبينوا أنهم ما سموه تنزيلاً إلا تهكماً، فقالوا مؤكدين لمعرفتهم بأن قولهم منكر: {إنك لمجنون} أي بسبب ادعائك أن الله أنزل عليك ذكراً والذي تراه جني يلقى إليك تخليطاً، فكان هذا دليلاً على عنادهم، فإنهم أقاموا الشتم مقام الجواب عما مضى صنعه المغلوب المقطوع في المناظرة، تم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا: {لو ما} أي هلا ولم لا {تأتينا بالملائكة} دليلاً على صدقك إما للشهادة لك وإما لإهلاك من خالفك {إن كنت} أي جبلة وطبعاً {من الصادقين} فيما تقول، أي ما وجه اختصاصك عنا بنزول الملائكة عليك ورؤيتك إياهم وأنت مثلنا في الإنسانية والنسب والبلد؟ هذا بعد أن قامت على صدقه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي أعظمها القرآن الداعي لهم إلى المبارزة كل حين المبكت لهم بالعجز عن المساجلة كل وقت.


ولما كان في قولهم أمران، أجاب عن كل منهما على طريق الاستئناف على تقدير سؤال من كأنه قال: ربما إذا أجابهم؟ فقيل: أجاب عن الثاني لأنه أقرب بقوله: {ما نُنزل الملائكة} أي هذا النوع {إلا} تنزلاً ملتبساً {بالحق} أي بسبب عمل الأمر الثابت، وهو معنى ما قال البخاري في كتاب التوحيد: قال مجاهد: بالرسالة والعذاب، وأما على الرسل فبالحق من الأقوال، وأما على المنذرين فبالحق من الأفعال من الهلاك والنجاة، فلو نزلوا عليهم كما اقترحوا لقضي الأمر بينك وبينهم فهلكوا {وما كانوا} أي الكفار {إذاً} أي إذ تأتيهم الملائكة {منظرين} أي حاصلاً لهم الإنظار على تقدير من التقادير، لأن الأمر الثابت يلزمه نجاة الطائع وهلاك العاصي في الحال من غير إمهال، وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم، وأجاب سبحانه عن الأول بقوله مؤكداً لتكذيبهم: {إنا نحن} أي على ما لنا من العظمة لا غيرنا من جن ولا إنس {نزلنا} أي بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام {الذكر} أي الموعظة والشرف {وإنا له} أي بعظمتنا وإن رغمت أنوف الحاسدين {لحافظون} أي دائماً، بقدرتنا وعلمنا، لما في سورة هود من أن ذلك لازم للحفظ فانتفى حينئذ جواز أن ينزل على مجنون مخلط لا سيما وهو على هذه الأساليب البديعة والمناهيج الرفيعة، فكأن المعنى: أرسلناك به حال كونك بشراً لا ملكاً قوياً سوياً، يعلمون أنك أكملهم عقلاً، وأعلاهم همة، وأيقنهم فكراً، وأتقنهم أمراً وأوثقهم رأياً، وأصلبهم عزيمة؛ روى البخاري في التفسير والفتن عن زيد بين ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة وعنده عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس- وفي رواية: بقراء القرآن- وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير! فلم يزل عمر يراحعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بين ثابت: وعمر جالس عنده لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال أبو بكر: هو والله خير! فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة- أو أبي خزيمة- الأنصاري، لم أجدهما- أي مكتوبتين- عند أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخرها، وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم حفصة بنت عمر- رضي الله عنهم.
وساق هذا الأثر أيضاً في فضائل القرآن، وروي بعده عن أنس رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة رضي الله عنه اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة- رضي الله عنهما أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فنسخوها في المصاحف؛ وقال عثمان رضي الله عنه للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. وله عن خارجه بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري- وفي رواية: فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة- الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهادته شهادة رجلين {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف. وفي الأثر الأول دلالة على أنه كان- لما أمره الصديق رضي الله عنه- لا يكتب شيئاً إلا إذا وجد ما كان قد كتب منه بحضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمره، وقابله مع ذلك على المحفوظ في صدور الرجال؛ وفي الأخير دليل من قوله: نسخنا المصحف في المصاحف- إلى آخره، أنه أعاد التتبع كما فعل أولاً ليصح قوله: فقدت آية من سورة الأحزاب.
لأن افتقادها فرع العلم بها، ومن أبعد البعيد أن يكون سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيراً يقرأها ولا يحفظها، ولا سيما وهو مذكور فيمن جمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما رواه البخاري من غير وجه عن أنس رضي الله عنه، والظاهر من مثل هذا التتبع الذي لا يجوِّز لمن مارس أمثال هذه الهمم أن يفهم غيره أن يكون لا ينقل آية إلا إذا وجد من حفاظها على حسب ما هي مكتوبة عدد التواتر والله أعلم.
ولما كان هذا الكلام الذي قالوه عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاقاً وله غائظاً موجعاً، قال تعالى تسلية له على وجه راد عليهم: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة والجلال والهيبة؛ ولما كان الإرسال بالفعل غير عام للزمان كله، قال: {من قبلك} أي كثيراً من الرسل {في شيع} أي فرق، سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة أو عمارة أو ديانة أو نحو ذلك من الأمور الجارية في العادة {الأولين} كلهم، فما أرسلنا إلا رجالاً من أهل القرى مثلك يوحى إليهم، ولم نرسل مع أحد منهم ملائكة تراها أممهم، بل جعلنا مكاشفة الملائكة أمراً خاصاً بالرسل، فكذبوا رسلهم {وما يأتيهم} عبر بالمضارع تصويراً للحال، إيذاناً بما يوجب من الغضب، فإن ما تجعل المضارع حالاً والماضي قريباً منه، وأكد النفي فقال: {من رسول} أي على أي وجه كان {إلا كانوا به} أي جبلة وطبعاً {يستهزئون} مكررين لذلك دائماً، فكأنهم تواصوا بمثل هذا، ولم ينقص هذا من عظمتنا شيئاً، فلا تبتئس بما يفعلون بك؛ والاستهزاء في الأصل: طلب الهزوء، والمراد به هنا- والله أعلم- الهزء، وهو إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح كاللعب والسخرية، ولعله عبر عنه بالسين المفهمة للطلب إشارة إلى أن رغبتهم فيه لا تنقضي كما هو شأن الطالب للشيء، مع أنهم لا يقعون على مرادهم في حق أهل الله أصلاً، لأنهم لا يفعلون من ذلك فعلاً إلا كان ظاهر البعد عما يريدون، لظهور ما يدعو إليه حزب الله وثباته، فكانوا لذلك كطالب ما لم يقع، وإنما كان الناس إلى ما يوجبه الجهل من الاستهزاء ونحوه أسرع منهم إلى ما يوجبه العلم من الأخذ بالحزم والنظر في العواقب، لما في ذلك من تعجل الراحة واللذة وإسقاط الكلفة بإلزام النفس الانتقال من حال إلى حال- قاله الرماني.
ولما كانت قلوب أهل الضلال موصوفة بالضيق والحرج، كان الداخل إليها لا يدخل إلا بغاية العسر، فلذلك قال جواباً لمن كأنه قال: أهذا خاص بهؤلاء؟ فقيل: لا، بل {كذلك} أي مثل هذا السلك العجيب الشأن، وعبر بالمضارع الدال مع التجدد على الاستمرار، لاقتضاء المقام له كما تقدم في أولها فقال: {نسلكه} أي الذكر {في قلوب المجرمين} أي العريقين في الإجرام في كل زمن كما يسلك الخيط والرمح ونحوه فيما ينظر فيه من مخيط وغيره بغاية العسر، فلا يتسع له المحل فلا ينفع، حال كونهم {لا يؤمنون به} لشيء من الأشياء، لأن صدورهم لا تنشرح له كما رأيت سنتنا بذلك في قومك {وقد خلت} أي مضت من قبل هذا {سنة} أي طريقة {الأولين} بذلك، ونحن قادرون على فعل ما نريد من تلك السنة بهذه الأمة من إهلاك وتيسير إيمان وغير ذلك، فهو ناظر إلى قوله: {وقرآن مبين} والغرض بيان أنه تعالى يعمي بعض الأبصار على الجلي، ويبصر بعضها بالخفي، إظهاراً للقدرة والاختيار بإنفاذ الأمر على خلاف القياس.
ولما أخبره بهذه الأسرار منبئة عن أحوالهم، وكانت النفس أشد شيء طلباً لقطع حجة المتعنت بإجابة سؤله، قال تعالى مخبراً بتحقيق ما ختم به من أنهم لا يؤمنون للخوارق ولو رأوا أعجب من الإيتان بالملائكة: {ولو فتحنا} أي بما لنا من العظمة {عليهم} أي على من قال: لو ما تأتينا بالملائكة {باباً} يناسب عظمتنا {من السماء} وأشار إلى أن ذلك حالهم- ولو كانوا في أجلى الأوقات وهو النهار- بقوله: {فظلوا} أي الكفار {فيه} أي ذلك الباب العالي {يعرجون} أي يصعدون ماشين في الصعود مشية الفرح {لقالوا} عناداً وإبعاداً عن الإيمان: {إنما سكرت} أي سدت وغشيت {أبصارنا} أي حتى ظننا ما ليس بواقع واقعاً {بل نحن قوم} أي وإن كان لنا غاية القوة على ما نريد محاولته {مسحورون} أي ثابت وقوع السحر علينا حتى صرنا نرى الأشياء على خلاف ما هي عليه ونثبت ما لا حقيقة له؛ والسكر: السد بإدخال اللطيف في المسام فيمنع الشيء كمال ما كان عليه، ومنه السكر بالشراب، والسحر: حيلة خفية توهم معنى المعجزة من غير حقيقة.


ولما كان ذكر هذه الآية السماوية على سبيل الفرض في الجواب عن إنكارهم النبوة، دليلاً على مرودهم على الكفر، وكان من المعلوم أن ثبوت النبوة مترتب على ثبوت الوحدانية، توقع السامع الفَهِم الإخبارَ عما له تعالى من الآيات المحققة الوجود المشاهدة الدالة على قدرته، فأتبعها بذلك استدلالاً على وحدانيته بما له من المصنوعات شرحاً لقوله: {وليعلموا أنما هو إله واحد} [إبراهيم: 52] ودليلاً على عدم إيمانهم بالخوارق، وابتدأ بالسماويات لظهورها لكل أحد وشرفها وظهور أنها من الخوارق بعدم ملابستها والوصول إليها، فقال مفتتحاً بحرف التوقع: {ولقد حعلنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر عليها سوانا مما هو مغنٍ عن فتح باب ونحوه {في السماء بروجاً} أي منازل للقمر، جمع برج، وهو في الأصل القصر العالي أولها الحمل وآخرها الحوت، سميت بذلك لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها، وهي مختلفة الطبائع، فسير الشمس والقمر بكل منها يؤثر ما لا يوثره الآخر، فاختلافها في ذلك- مع أن نسبتها إلى السماء واحدة- دليل على الفاعل المختار الواحد، والعرب أعرف الناس بها وباختلافها.
ومادة برج بكل تقليب تدور على الظهور الملزوم للعلو الملزوم للقوة، وقد يفرط فيلزمه الضعف، فمن مطلق الظهور: بروج السماء، قال القزاز: سميت بروجاً لأنها بيوت الكواكب، فكأنها بمنزلة الحصون لها، وقيل: سميت لارتفاعها، وكل حصن مرتفع فهو برج، والبرج- أي محركاً: سعة بياض العين وصفاء سوادها، وقيل: البرج في العين هو أن يكون البياض محدقاً بالسواد، يظهر في نظر الإنسان فلا يغيب من سواد العين شيء، وتبرجت المرأة: أبدت محاسنها، والجربياء: الشمال- لعلوها، والجريب: الوادي- لظهوره، والجريب: مكيال أربعة أقفزة، وجريب الأرض معروف، وهو ساحة مربعة كل جانب منها ستون ذراعاً، ومنه الجراب- لوعاء من جلود، والجورب- للفافة الرجل، لأنهما ظاهران بالنسبة إلى ما فيهما، وكذا الجربان- لغلاف السيف، وجرب البئر: جوفها؛ والأرجاب: الأمعاء- شبهاً بالجراب؛ والبارجة: سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال، والبجرة: كل عقدة في البطن، والعجرة: كل عقدة في الجسد، والبجرة: السرة الناتئة، وسرة البعير عظمت أولاً، والبجر والبجري: الأمر العظيم، وجاء فلان بالبجارة، وهي الداهية: وفيه ما جمع إلى الظهور القوة؛ ومن ذلك رجب: اسم شهر، ورجبت الرجل: عظمته، والرجبة من وصف الأدوية، والرجب: الحياء والعفو، والرجب: الهيبة؛ والمجرب: الذي بلي بالشدائد؛ ورجبت النخل ترجيباً: بنيت من جانبها بناء لئلا يسقط؛ والجبر: خلاف الكسر، والملك- لوجود الجبر به لقوته، وجبرت العظم، والجبارة: ما يوضع على الكسر لينجبر، وجبرت الرجل: أحسنت إليه، وأجبرته: ضممته إلى ما يريد، وأجبرته على كذا: قهرته عليه، أي أزلت جبره، والجيرية: العانة من الحمير، وهي أيضاً الأقوياء من الناس، والجبار من النخل: الطويل الفتي، والجبار اسم من أسماء الله تعالى، والجبار: كل عات، وكل ما فات اليد، والعظيم القوي الطويل، والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً والمتجبر: الأسد، وجبار بالضم مخففاً: يوم الثلاثاء- لأن الله تعالى خلق المكروه فيه- كما في الصحيح، ومن الضعف: الجبار- بالضم مخففاً، وهو الهدر من الدماء والحروب وغيرها، وقد يكون من جبر الكسر، لأنه جبر به المهدر عنه وقوي به وأحسن إليه، وكل ما أفسد وأهلك فهو جبار- كأنه شبه بالجبيرة التي تفسد لإصلاح الكسر، والجبر: العبد- لضعفه واحتياجه إلى التقوية؛ ومن الضعف أيضاً الجرب بالنسبة إلى من يحل به، وهو من القوة بالنسبة إلى نفسه، ومن الظهور والانتشار أيضاً، والجرباء: السماء- تشبيهاً بالأجرب، وأرض جرباء: مقحوطة؛ والتربج: التجبر، والروبج: درهم صغير؛ قال الزبيدي: وهو دخيل، ومادة جبر منها بخصوص ترتيبها تدور على النفع، وتارة تنظر إلى ما يلزمه من عدم الضر مثل الجبار بالضم مخففاً لما هدر، وتارة تنظر إلى ما يلزم النفع من التكبر والقهر.
ولما ذكر البروج، وصف سبحانه السماء المشتملة عليها فقال: {وزيناها} أي السماء لأنها المحدث عنها بالكواكب {للناظرين} أي لكل من له أهبة النظر، في دلائل الوحدانية، لا عائق له عن معرفة ذلك إلا عدم صرفه النظر إليه بالبصر أو بالبصيرة {وحفظناها} أي بما لنا من العظمة {من كل شيطان} أي بعيد من الخير محترق {رجيم} مستحق للرجم وهو رمي الشيء بالاعتماد من غير آلة مهيأة للإصابة كالقوس فإنها للرمي لا للرجم ومستحق للشتم، لأنه قوال بالظن وما لا حقيقة له {إلا من استرق السمع} منهم فإنا لم نرد تمام الحفظ منه {فأتبعه} أي تبعه تبع من هو حاث لنفسه سائق لها {شهاب} وهو عمود من نور يمتد بشدة ضيائه كالنار {مبين} يراه من فيه أهلية الرؤية حين يرجم به؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذه ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقي السمع ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر» ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابعه اليمنى، نصبها بعضها فوق بعض «فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى بلغوها إلى الأرض» وربما قال سفيان: حتى ينتهي إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبه فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء. قال المفسرون رضي الله عنهم: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات فيلقون ما يسمعون منها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم منعوا من السماوات كلها هكذا رأيت ولد ولعله بعث فإن في الصحيح أن الذي منعهم نزول القرآن.
ولما ذكر آية السماء، ثنى بآية الأرض فقال: {والأرض مددناها} أي بما لنا من العظمة، في الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق، على الماء {وألقينا} أي بعظمتنا {فيها} أي الأرض، جبالاً {رواسي} أي ثوابت، لئلا تميل بأهلها وليكون لهم علامات؛ ثم بنه على إحياء الموتى بما أنعم به في الأرض بقياس جلي بقوله: {وأنبتنا فيها} أي الأرض ولا سيما الجبال بقوتنا الباهرة {من كل شيء موزون} أي مقدر على مقتضى الحكمة من المعادن والنبات {وجعلنا لكم} أي إنعاماً منا عليكم {فيها معايش} وهي بياء صريحة من غير مد، جمع معيشة، وهي ما يحصل به العيش من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها {ومن لستم} أي أيها الأقوياء الرؤساء {له برازقين} مثلكم في ذلك، جعلنا له فها معايش من العيال والخدم وسائر الحيوانات التي تنتفعون بها وإن ظننتم أنكم ترزقونهم، فإن ذلك باطل لأنكم لا تقدرون على رزق أنفسكم فكيف بغيركم؟ فلما ظهر كالشمس كمال قدرته وأنه واحد لا شريك له، بين أنه- كما كانت هذه الأشياء عنده بحساب قدره على حكمة دبّرها- كان غيرها كذلك، فذلك هو المانع من معاجلتهم بما يهزؤون به من العذاب، فقال: {وإن} أي وما {من شيء} أي مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة، وهي لا نهاية لها {إلا عندنا} أي لما لنا من القدرة الغالبة {خزائنه} أي كما هو مقرر عندكم، لا تنازعون فيه، قال في الكشاف: ذكر الخزائن تمثيل {وما ننزله} أي مطلق ذلك الشيء لا بقيد عدم التناهي، فإن كل ما يبرز إلى الوجود متناه، فهو استخدام {إلا بقدر معلوم} على حسب التدريج كما ترونه؛ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ليس عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء، عاماً ههنا وعاماً ههنا، وربما كان في البحر. فهذا دليل قطعي على أن الفاعل المخصص له بوقت دون وقت وأرض دون أخرى فاعل واحد مختار.
فلما تم ما أراد من آيتي السماء والأرض، وختمه بشمول قدرته لكل شيء، أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته فقال: {وأرسلنا} أي بما لنا من التصريف الباهر {الرياح} جمع ريح، وهي جسم لطف منبث في الجو سريع المر {لواقح} أي حوامل تحمل الندى ثم تمجه في السحاب التي تنشئها، فهي حوامل للماء، لواحق بالجو، قوته على ذلك عالية حساً ومعنى؛ والريح: هواء متحرك، وحركته بعد أن كان ساكناً لا بد لها من سبب، وليس هو نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته، وإلا دامت حركته.
فليست إلا بتحريك الفاعل الواحد المختار {فأنزلنا} أي بعظمتنا بسبب تلك السحائب التي حملتها الرياح {من السماء} أي الحقيقية أو جهتها أو السحاب، لأن الأسباب المتراقية بسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد وأخرى إلى الأبعد {ماء} وهو جسم مائع سيال، به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء {فأسقيناكموه} جعلناه لكم سقياً، يقال: سقيته ماء أي ليشربه، وأسقيته أي مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد. ونفى سبحانه عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه فقال {وما أنتم له} أي ذلك الماء {بخازنين} والخزن: وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ، فثبت أن القادر عليه واحد مختار.
ومادة لقح بتقاليبها الست تدور على اللحاق، وتلزمه القوة والعلو حساً أو معنى، فاللقاح اسم ماء الفحل- لأنه يلحق الأنثى فتحمله، وقد ألقح الفحل الناقة، ولقحت لقاحاً: حملت، والملقوح: ما لقحته من الفحل، أي أخذته، وهي الملاقيح- يعني الأجنة، واللقحة: الناقة الحلوب- لأنها أهل لأن يلحقها جائع، وألقح القوم النخل ولقحوها- إذا ألحقوها بالفحالة فعلقوها عليها.
والقاحل: اليابس من الجلود، لأن أجزاءه تلاحق بعضها ببعض فضمرت، ومنه شيخ قاحل.
واللحق: كل شيء لحق شيئاً أي أدركه، والملحق: الدعي- لأنه متهيئ لأنه يستلحقه كل من يريده، والملحاق: الناقة التي لا يفوتها الإبل: قال الزبيدي في مختصر العين: وفي القنوت: إن عذابك بالكغار ملحق- بالكسر، أي لاحق- لغة.
والحقل: القراح الطيب- لتهيئها لمن يلحق بها، وقيل: هو الزرع إذا تشعب ورقة، وهو من ذلك أيضاً ومن لحوقه بالحصاد فيصير كالمحلوق، والحقيل: نبت، والحقيلة: الماء الرطب، أي الأخضر من البقل والشجر في الأمعاء منه، والحقيلة: حشافة التمر- للحاق كل من أرداه به، والحوقلة: الغرمول اللين- كأنه مشبه بالنبت الأخضر، أو لإمكان تثنيه كل وقت ولحوق بعض أجزائه ببعض، والحوقل: الشيخ الضعيف النكاح- كأنه منه، والحوقلة: سرعة المشي، وحقل الفرس- إذا وجع من أكل التراب- كأنه مأخوذ من الحقل، وحوقل الشيخ: اعتمد بيديه على خصره إذا تمشى- كأنه للحاق يديه خصره.
والحلق مساغ الطعام والشراب، وحلوق الأرض: أوديتها ومجاريها- للحاق المياه بها، ولشبيهها بالحلوق، والحلق: حلق الشعر بالموسى، من اللحاق والقوة، والمحالق: الأكسية الخشنة التي تحلق الشعر من خشونتها، والحالق: المشؤوم الذي يحلق قومه؛ والحلق: ضرب من النبات، لورقه حموضة- كأنه لسرعة لحاق الماشية به لأنه كالفاكهة لها، والحلقة: الخاتم بلا فص- لتلاحق أجزائها بعضها ببعض، ومنه حلقة القوم، والحلقة: السلاح كله، إما من هذا لأن منها الدروع ذات الحلق، تسمية للشيء باسم جزئه، وإما من القوة والعلو المعنوي لما يلزم عنها، والحلق: المال الكثير، إما من ذلك وإما من لحاق صاحبه بمراده، والحالق: الجبل المنيف- لظهوره وعلوه ولحاقه بالجو، والحوقلة: القارورة الطويلة العنق، وحلق الطائر: ارتفع في الهواء، من هذا؛ واللقحة: الغراب؛ والحالق من الكرم والشرى: ما تعلق منه بالقضبان، فهو ظاهر في اللحاق، وحلق الضرع- إذا ارتفع إلى البطن وانضم، فهو من العلو واللحاق، وقيل: إذا كثر لبنه فهو إذاً من اللحاق، وتحلق القمر: صارت حوله دارة، وحلق قضيب الفرس حلقاً- إذا تقشر، كأنه شبه بما حلق شعره، وحي لقاح: لم يملكوا قط كأنه من القوة والعلو المعنوي؛ والقلح: صفرة تعلو الأسنان، فهو من اللحاق مع العلو، ويسمى الجعل أقلح من هذا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6